ستظل مجموعة ناس الغيوان, وإلى الأبد, تلك العلامة الفارقة في صيرورة التحولات الفكرية و السوسيو اقتصادية التي شهدها مغرب ما بعد الاستقلال. إذ كان ميلاد المجموعة في بداية السبعينات تفجيرا للنهر الخالد/الذاكرة الشعبية, وترسيما للهوية الجماعية من خلال شكل إبداعي جديد يتمثّل الماضي البسيط, ليؤكد بالقوة و الفعل وجوده الحاضر, ملغيا معه صراع الوجدان ضد الطمس و الاستيلاب و الفصامية…لهذا كانت الغيوان العلامة الأبرز, التي وسمت جيل السبعينات بأكمله,ليس فقط بثورتها الموسيقية و الجمالية, ولكن, أساسا, بحمولاتها النقدية وأبعادها الصوفية و الحنينية.
لم تتردد الزاوية الغيوانية، منذ اللحظة الأولى، في فتح أبوابها أمام المجاذيب والمريدين الذين وجدوا في النموذج الفني الذي تبشر به المجموعة ما لم يجدوه في غيرها من الأشكال الغنائية والتعبيرية التي سبقتها.
غير أن سحبها البساط من تحت أقدام الجميع، جعل الفاعل السياسي و حتى الثقافي يقف موقفا مترددا و ملتبسا من هذا المشروع الفني و المذهبي الجديد, لأن الغيوان و هي تحقق ما عجزت عنه النخب من إجماع و تعبئة و تنوير، كانت تمارس، في الواقع و دون أن تعي ذلك، نوعا من الوصاية المذهبية و الفنية على المجتمع الذي بدأت فئات واسعة منه تنفر من الأدبيات الأكاديمية و الإيديولوجية الكلاسيكية.
لقد شكل ظهور ناس الغيوان, في بداية السبعينات, إضافة نوعية للنخبة الثقافية المحلية التي كانت حتى وقت قريب تمارس طقوسا إقصائية في حق التعبير الشعبي و الفطري, إما بدعوى أنه شكل رجعي يستخدم لتكريس الواقع الموجود و الدفاع عنه, و إمّا من موقف أن المبدع فوق العامة يدخل ذاته و يغلقها عليه فيجد الإبداع و الإلهام، بشكل يصبح معه الإبداع الفكري و الأدبي ميزة الإنسان/المفكّر عن الإنسان/اليدوي.
و نتيجة لذلك تم تهميش شريحة واسعة من الطبقة الشعبية من الإنتاج الإبداعي، كما تم و لزمن طويل, تهميش الأدب الشعبي كأن لم تكن تتوفر فيه شروط الأهلية للانضمام إلى المدينة المحرّمة للثقافة المغربية.
لكن مع الغيوان ستسقط كل الحواجز أمام مثقف الهامش المفتقد للتكوين الأكاديمي للبروز كجيل جديد من المثقفين المحليين. جيل وسمه التوجه نحو الفرد و النماذج القادمة من العوالم السفلى كتيمة وموضوع, لا مجرد خلفيات مهمشة أو ديكورات تؤثث الفضاءات الإبداعية.
و ليس من قبيل العبث أن تتزامن فورة المجموعات الغنائية, في السبعينات, و انطلاقة ظاهرة الفن التشكيلي الفطري مثلا, في تقاطع فني ثلاثي الأبعاد (الإنسان,الأرض,التعبير) بين العيطة و الحنّاء, و لقاء فكري يمزج بين الإيقاع و اللون و الجسد. بشكل جعل من السبعينات لحظة مراجعة الذات لعلاقتها بالجذور الشعبية والتأسيس للمفاهيم و المرجعيات التي أكسبت المجال الثقافي المحلي اعتدادا و ثقة في إبداعاته كفاعل/منتج لا فقط منفعل/مستهلك لما تأتي به رياح المشرق و الشمال.
بدوره أدرك الفاعل السياسي بحسه البراغماتي الدلالات التي يحملها حدث من حجم التمرد الذي أعلنته الزاوية الغيوانية, باعتباره مؤشرا على انقلاب و ثورة على القيم و المفاهيم. فسارعت عدد من التنظيمات اليسارية إلى تبني النموذج الذي تبشّر به المجموعة الشبابية, في علاقة ميكافيلية بين تيار سياسي يسعى لاختراق مجتمعي, عبر الأغنية باعتبارها أداة للتعبئة في مواجهة الدولة التي أنهكته أجهزتها بضرباتها المتتالية, و بين موسيقيين شباب يخوضون مغامرة العمر و هم واعون تمام A7لوعي جسامة الدعوة لخيار غير مألوف ينتصب نقيضا للنموذج الرسمي, فكانوا بذلك في حاجة لتغطية سياسية و مبرّر يخوّل لهم شرعية تدشين الصرح الزاوية الجديدة. فكانت ثمار هذا “الزواج الأبيض” أن صارت الغيوان الواجهة الشعبية للفكر اليساري المتصاعد باضطراد في الجامعة المغربية أساسا. وهذا ما يفسر، بشكل من الاشكال، كيف شهدت بداية السبعينات فورة المدّ الماركسي الثوري في نفس الآن الذي ارتفعت فيه حدّة الخطاب الغيواني.
أما النظام فقد وعى مبكرا بالخطر الذي تمثّله جرأة الزاوية الغيوانية على النمط الثقافي و الإيديولوجي الذي كان يسعى لفرضه على المجتمع, حينما أصرّت المجموعة على التطرق لمواضيع محرمة لم يكن مسموحا بإذاعتها, فسارعت أجهزته إلى محاولة تطويق الزاوية الغيوانية, عبر فرض حصار إعلامي عليها تارة, أو طرح نماذج غنائية بديلة تارة أخرى, أو حتى من خلال احتواء المجموعة و استغلالها, خصوصا بعد اكتشاف أثرها الحاسم و الفعلي للمجموعة على الاتجاه النفسي العام في أوساط الشباب. فحاولت وسائل الإعلام الرسمية وبعدما كانت تتجاهل المجموعة تكييف هذا الاهتمام وتوجيهه عبر فتح أبواب الإذاعة و التلفزيون على مصراعيها من حين لآخر أمام المجموعة.