ستظل مجموعة ناس الغيوان, وإلى الأبد, تلك العلامة الفارقة في صيرورة التحولات الفكرية و السوسيو اقتصادية التي شهدها مغرب ما بعد الاستقلال. إذ كان ميلاد المجموعة في بداية السبعينات تفجيرا للنهر الخالد/الذاكرة الشعبية, وترسيما للهوية الجماعية من خلال شكل إبداعي جديد يتمثّل الماضي البسيط, ليؤكد بالقوة و الفعل وجوده الحاضر, ملغيا معه صراع الوجدان ضد الطمس و الاستيلاب و الفصامية…لهذا كانت الغيوان العلامة الأبرز, التي وسمت جيل السبعينات بأكمله, ليس فقط بثورتها الموسيقية و الجمالية, ولكن, أساسا, بحمولاتها النقدية وأبعادها الصوفية و الحنينية.
يعتبر “الالتزام” مفهوما ونسقا مؤطرا للفعل الموسيقي لإبداعات الزاوية الغيوانية, ذو انعكاسات حساسة على بنيتها الفكرية و خلفيتها المذهبية. فما الذي يقصد بالالتزام لدى “الدراويش الجدد”؟
يقصد بالأغنية الملتزمة, عموما, تلك التي تتناول ”مواضيع مرتبطة بالواقع المعاش لدى أوسع القطاعات الجماهيرية و طرحها برؤية نقدية تهدف إلى التحسيس و الوعي بها, و بالتالي التحفيز و ربّما التحريض من أجل تجاوزها, أي تغيير ذاك الواقع” (إبراهيم آيت حو, إضاءات حول الأغنية المغربية).
وهو ما برز, فعلا, عند الزاوية الغيوانية التي أظهرت, منذ البداية, أنها, و أثناء سعيها لالتقاط مواضيع وقضايا الواقع الاجتماعي والسياسي, كانت تعمل على مقاربتها مقاربة نقدية وتقدمية, تحوّلت معها أغاني الزاوية إلى تعبير بالتفويض عمّا في دواخل الأفراد و الجماعة من غبن و معاناة و مكبوتات.
و مع ذلك تبقى الأغنية الملتزمة عند الغيوان, أبعد عن حصرها في الخلفيات السياسية أو الإيديولوجية, بل هي شاملة لمجموع المواضيع والمضامين الفكرية والعاطفية والإنسانية. و بالتالي يصبح في مفهوم الفنان الملتزم إحالة على كل مشتغل بمجال الإبداع حريص على تقديم منتوج فني تتوفر فيه شروط الإمتاع و المؤانسة و الجمال, و ذو صلة عميقة بنبضات الإنسان و أحاسيسه الشقية و السعيدة.
أما جعل الالتزام رهين حلقات سياسية و إيديولوجية, فذاك تضييق فكري و مرحلي لهذه الأغنية يفقدها قيمتها بمجرد تجاوز مبرّر مناسبة وجودها. حيث يصبح الفن الملتزم مناسبتيا, و طبيعة الفن الدوام و الخلود و الاحتفالية. لهذا يمكن اعتبار الأغاني العاطفية للسيدة فيروز أو الراحل محمد رويشة أغاني ملتزمة لتوفر هذين النموذجين على شروط ومقومات الصدق و الإمتاع و المؤانسة. لكلّ ذاك آن الآوان للتخلص من ذاك اللبس الذي يقيّد الزاوية الغيوانية و يحصرها في بعدها الثوري فقط, مبخسا من شأن ركنها الأساس, أي الجانب الروحي و الصوفي. لأن مؤطر الإبداع عند ناس الغيوان ليس هو الإيديولوجيا بل ذلك الشيء المروّع الذي “يسكن القلب منذ البداية فيعذبه و يعذّب الفكر, ينساه و يتجاهله ثم يبتعد عنه و في يوم يعود إليه. هكذا في يوم ما تبزغ شمس الإبداع داخل المخلوق آهلة بكل التناقضات و العجائب…و هكذا يتسرب إلى داخل الجسد و الروح ثم يستوطنها إلى الأبد…و لا إبداع بدون ألم”(العربي باطما/الرحيل).