Ads 160x600
Ads 160x600
الرئيسية / / آراء / الأندلس وأمريكا اللاتينية.. خواطر من التاريخ الذهني (1)

الأندلس وأمريكا اللاتينية.. خواطر من التاريخ الذهني (1)

كيوسك أنفو 22 أغسطس 2024 - 20:05 آراء

عبد الواحد أݣمير – لما كنت أَدْرُس في قسم تاريخ أمريكا اللاتينية بجامعة مدريد كومبلوتينسي، وزَّع علينا الأستاذ ذات مرة، مجموعة من الرسائل قال إنها مستنسخة من الرسائل الأصلية التي بعثها “هرنان كوتيس” Hernán Cortés (القائد الإسباني الذي قام بغزو المكسيك) إلى الإمبراطور “شارل كانت” Charles Quint ، وأضاف أن النسخ الأصلية لتلك الرسائل توجد في المكتبة الوطنية بفيينا.

لاحظ الأستاذ في أعيينا التساؤل لذا كان عليه أن يشرح أشياء بعضنا لا يعرفها، قال: “ربما تستغربون كيف أن هذه الرسائل توجد في فيينا وليس في إشبيلية، حيث يوجد “أرشيف الهند الغربية” Archivo de Indias، والذي يضم كل ما له علاقة باكتشاف وغزو وتعمير العالم الجديد”، ثم أضاف أن ذلك له تفسيره، ف “شارل كانت” لم يكن إمبراطور إسبانيا فقط، وإنما هو إمبراطور إسبانيا وألمانيا، وكانت النمسا توجد ضمن أراضيه، فهو ورث مملكة إسبانيا عن أمه الملكة “خوانا”، وورث إمبراطورية ألمانيا عن جده الإمبراطور “مكسيميليانو” الذي كان نمساوي الأصل والمولد؛ لذا لما بعث “هرنان كورتيس” تلك الرسائل إلى “شارل كانت”، كان هذا الأخير يقيم في النمسا وليس في إسبانيا، وذاك هو سبب وجود النسخ الأصلية لتلك الرسائل في المكتبة الوطنية بفيينا.

الرسائل التي وزع علينا الأستاذ كُتبت بحروف واضحة ولغة سليمة (لغة لقرن السادس عشر)، وخصوصاً بأسلوب سلس عادة ما افتُقد بين قادة الجيش الذين قاموا بغزو أمريكا. كانت في مجموعها خمس رسائل تتحدث عن ثقافة الهنود، وعن عملية الغزو، وعن الكيفية التي تمكن بها “هرنان كورتيس” من القضاء على شعب الأزطيك وعلى إمبراطورهم، وتأسيس كيان سياسي جديد في المكسيك أُطلق عليه اسم “إسبانيا الجديدة”.

كانت تلك الرسائل طويلة، لذا ارتأى الأستاذ أن يتولى دراسة كل واحدة منها ثلاثة طلبة. لما بدأت أشتغل مع الطالبين الآخرين على الرسالة التي خصصت لنا، لاحظتُ شيئاً غريباً، هو تكرار ثلاث كلمات في أكثر من مناسبة، هي: موريسكيون، وفقهاء، ومساجد. قال لي أحد الطالبين: “قم أنت بدراسة تاريخية لهذه المصطلحات الثلاثة، بحكم ثقافتك الإسلامية، بينما نحن نتولى دراسة الباقي”. أجبت مازحاً: “اخترتما الأسهل وتركتما لي الأصعب”، وهذا صحيح إلى حد ما، فالكلمات الثلاث، تعتبر خارج السياق.

الرسالة تتحدث عن عشرينات القرن السادس عشر، وفي تلك الفترة لم يكن يسمح بوصول الموريسكيين إلى العالم الجديد، حيث صدر قانون إمبراطوري يمنعهم من ذلك، خوفاً من نشر الإسلام بين الهنود، فكيف إذن يتحدث “هرنان كورتيس” عن الموريسكيين في المكسيك، بل وعن المساجد والفقهاء؟. إنها ألغاز يجب فك شفرتها! قلت مع نفسي، الجواب لن أعثر عليه إلا من خلال الغوص في سيرة الثقافية ل “هرنان كورتيس” قبل أن يرحل إلى المكسيك، كيف تشكلت مرجعيته الثقافية؟، ما هي علاقته بالإسلام؟، وكيف تَمَثَّلَه على المستوى الذهني؟.

ذهبت إلى خزانة الجامعة وطلبت كل ما كُتب عن “هرنان كورتيس”، بما في ذلك نسخة من كتاب يتضمن تلك الرسائل بتحقيق مستفيض. لكن وهذا الطريف، فالمحقق تحدث عن كل ما يوجد في تلك الرسائل، ولكن أغفل الأهم بالنسبة لي، هو تقديم تفسير تاريخي لتلك الكلمات الغريبة.

كنت أعرف أنه في مثل هذه المواقف لن يعثر الباحث على المعلومة، بل يجب أن يستنتجها؛ ففي علم التاريخ المسكوت عنه هو أكثر من المنطوق به أحياناً، وفي هذه الحالة يتحول المسكوت عنه إلى السبيل لاستخلاص المنطوق به. هكذا وبعدما قضيت أياماً مع “هرنان كورتيس”، اكتشفت أنه لم يكن قائداً عسكرياً عادياً؛ فهو خريج جامعة سَلَمَنْكَا، وهذه الجامعة متخصصة في علوم الدين؛ وعلوم الدين آنذاك، كانت تفرض بالضرورة دراسة العلاقة المتشنجة بين إسبانيا المسلمة وإسبانيا المسيحية، والتي انتهت بطرد الثانية للأولى.

ينتمي ذلك الطرد إلى التاريخ الواقعي، وقد انتهى التاريخ الواقعي بنهاية الأندلس، ولكن لم ينته التاريخ الذهني، من هنا فتفسير الكلمات الثلاث التي تمثل اللغز، تنتمي إلى التاريخ الذهني وليس التاريخ الواقعي. في ذهنية “هرنان كوتيس” وثقافة إسبانيا المرحلة التي عاش فيها، كل من هو مختلف عنهم يعتبر مسلماً؛ فهم لم يعرفوا أي “آخر” غير المسلم، من هنا تصبح الدلالة متجاوزة للمفهوم، لذا “فهرنان كورتيس” عندما تحدث عن الموريسكين كان يقصد الهنود الذين وجدهم في المكسيك، وعندما تحدث عن الفقهاء كان يقصد رجال الدين الذين يشرفون على ديانة الهنود، وعندما تحدث عن المساجد كان يقصد معابد الهنود. لم يتجاوز أفقه الذهني هذه المُسَلَّمة رغم أن الهنود كانوا على الديانة الوثنية؛ لأن “الأنا” عندما تتموقع في المستوى الذهني تصنع “الآخر” وفق قناعاتها، فتصنفه وتضعه داخل دائرة مغلقة انطلاقاً من حمولات إيديولوجية وثقافية واجتماعية ونفسية وسلوكية توجد في “الأنا”. بهذه الكيفية تقع عملية الإخصاب الذهني بين المتخيل والخيال، فيتحول المتخيل إلى واقع يقوم بتشخيص انشطاري ل “الآخر”، بشكل تعذر معه بالنسبة ل “هرنان كورتيس” التمييز بين الهندي والموريسكي. (يتبع).

 

 

شاركها LinkedIn