ستظل مجموعة ناس الغيوان, وإلى الأبد, تلك العلامة الفارقة في صيرورة التحولات الفكرية و السوسيو اقتصادية التي شهدها مغرب ما بعد الاستقلال. إذ كان ميلاد المجموعة في بداية السبعينات تفجيرا للنهر الخالد/الذاكرة الشعبية,وترسيما للهوية الجماعية من خلال شكل إبداعي جديد يتمثّل الماضي البسيط,ليؤكد بالقوة و الفعل وجوده الحاضر,ملغيا معه صراع الوجدان ضد الطمس و الاستيلاب و الفصامية…لهذا كانت الغيوان العلامة الأبرز,التي وسمت جيل السبعينات بأكمله,ليس فقط بثورتها الموسيقية و الجمالية,ولكن, أساسا, بحمولاتها النقدية وأبعادها الصوفية و الحنينية.
غنّت الغيوان أول ما غنت: “الصينية” … تلك الأغنية التي تقول أكثر من الكثير… الأغنية التي فجّرت الدهشة في وجدان المتلقي من هذا الشكل الغريب/المألوف, الذي يدعوك كأنه الدخان الأزرق للهجرة إلى عوالمه الروحانية,هربا من صحراء المدينة وضلالتها, فكانت “الصينية” إعلانا عن الإجهاز على جاهلية القرن العشرين, سيتلازم, فيما بعد, مع الوقع الصادم للمنظومة الغيوانية, في متنها الموسيقي ونصوصها الغنائية, التي تطرقت إلى مواضيع ومضامين الشبه المحرمة. و هو التلازم الذي أنبأ عن أن شيئا ما يلوح في الأفق, وأن الغيوان لا علاقة لها من حيث الطرح والتناول بالتجارب الفنية والثقافية السابقة.
لكن و ورغم الصيت والانتشار الكبيرين, الذي عرفته جل إبداعات المجموعة, فإن الأغنية التي تمثل ,فعلا, ناس الغيوان/القطيعة بتشكيلها ذاك الحد الفاصل بين ما قبل الغيوان وما بعدهم, هي أغنية أو بالأحرى نشيد “قطتي صغيرة”. فهذا النشيد وهو يداعب بمكر الطفل داخل وجدان الجمهور المتعلم البالغ, كان يقدم المشروع الغيواني بسخرية لاذعة. فمن خلال “قطتي صغيرة_ اسمها نميرة” فتحت المجموعة حوارا حميميا مع المتلقي وأذابت جدران الجليد بينه وبين المبدع.
هكذا تختزل “الصينية” و”قطتي صغيرة” الأسلوب الفني الجديد الذي كانت تبشر به ناس الغيوان…فبالجمع بين الدهشة والوقع الصادم و السخرية المرّة, كانت المجموعة تفتح النار بلا هوادة في وجه الجماليات السائدة و الموسيقى الهجينة الجامدة. و كما قال عالم الاجتماع جورج لاباساد, وهو من أوائل الناس الذين اكتشفوا ناس الغيوان, فإنّ ظهور المجموعة شكّل ثورة موسيقية فنية قادت إلى قلب المشهد الثقافي بالمغرب رأسا على عقب.
كل ذلك في سياق كوني كان يهتز تحت وقع موسيقى شبابية جديدة, بصخبها و هستيرياتها, الصوفية أحيانا و المعربدة أحيانا أخرى, ترجم في صورة موجات موسيقية ذات حمولات شعبية أو صوفية كنسية, سعت منذ البداية إلى تجاوز الأنماط الغنائية الكلاسيكية, والتحول من سلبية و برودة التعابير الموسيقية إلى جعل الغناء إعلانا عن التمرد و رفض المآل الذي وصلت إليه المجتمعات المصنعة, والدعوة إلى تناول الواقع المعاش و مشاكل الفئات الشعبية, والأزمات الإنسانية والوجودية لشباب تلك الفترة كالعنصرية,المخدرات, الحروب, المكننة وطغيان الآلة…فتحولت بذلك الأغنية والموسيقى إلى نوع من التمرد والتطهير الروحي في أجواء هستيرية صاخبة.