نادية عسوي
لم تكن رحلتي اليوم من الدار البيضاء إلى الجديدة سوى عبور عابر على الطريق السيار، لكن غياب التشوير دفعني إلى تجاوز المدخل، لأجد نفسي على طريق مراكش. خرجت عند مفترق بوسكورة – المدينة الخضراء، وتبعت إحساسي الذي ساقني نحو سيدي معروف، ثم إلى لساسفة، في محاولة للعودة إلى الطريق الصحيح.
لكن الطريق كان ماكرًا… أخذني إلى زمن آخر.
أربعون عامًا طواها الغياب انفتحت فجأة، ووجدتني أمشي بين ظلين: ظل الماضي الممدود في ذاكرتي، وظل الحاضر الممتد أمام عيني. هنا، حيث كنت في التاسعة عشرة، أركب سيارة “ستروين” كبيرة، يهتز هيكلها مع كل منعطف، محملة بثلاجات صغيرة تحفظ اللقاح، وبحقن زجاجية دقيقة كأصابع من البلور، نحافظ عليها كما نحافظ على النبض في صدر طفل.
كنا نعبر الدواوير وسط الحقول، نخترق سهولًا تنام بين خضرتها أزهار البلْعمان، كأنها بقع من شمس صغيرة سقطت على الأرض.
كانت أسماء الأمكنة موسيقى تعرفها الروح: أولاد مالك، أولاد رحو، مقيليبة، أولاد حدو… واليوم لم يتبق منها إلا حروف باهتة على واجهات بعض الصيدليات والمحلات التجارية، كأطياف معلقة بين الوجود والغياب.
هنا كنت أمشي، أسمع ضحكات الأطفال تسبق خطواتي، وأصغي لزقزقة العصافير وهي تملأ الصباح حياة. أما اليوم، فقد حل محلها ضجيج السيارات، وصوت المنبهات، وصفير إشارات المرور.
ابتلع الإسمنت الحقول كما يبتلع الليل آخر شعاع للشمس، وأخفى رائحة التراب المبلل بندى الفجر، وأطفأ ألوان البلْعمان التي كانت تلوّن عيوننا بالفرح.
وقفت على قارعة هذا الزمن الجديد، أبحث عن الأرض التي كانت، عن نسمة الهواء التي كانت تحمل في جناحيها أصوات العصافير ورائحة العشب، فلم أجد سوى صمت الخرسانة.
وفي لحظة، أدركت الحقيقة التي طعنتني كخنجر بارد: الحقول التي كنت أظنها نائمة تحت الإسمنت… لم تعد موجودة أصلًا. التربة بيعت، الجذور اقتلعت، وحتى الريح التي كانت تمر من هنا، غيّرت طريقها.
للتطور ضريبة، والدار البيضاء دفعت ثمنها كاملًا… أرضها التي كانت تزرع الحياة، صارت جدرانًا تحجب السماء، وأفقًا ضيقًا لا يتسع حتى لظل شجرة.
وأنا… غادرت المكان كما غادرني، بلا طريق للعودة، أحمل في قلبي حقولًا ماتت، وأزهارًا لم يبق منها سوى لونها في الذاكرة.