*د. صلاح الدين اركيبي
إن البحث العلمي لا يشكل فقط أحد أهم دعائم تقدم المجتمعات، بل يمثل كذلك الحقل الذي تتبلور فيه الأفكار الجديدة والتصورات المبتكرة لمواجهة التحديات الراهنة. منذ صدور المرسوم رقم 2.13.658 في 30 شتنبر 2013، أصبح إحداث مراكز للدكتوراه في المعاهد العليا للمهن التمريضية وتقنيات الصحة (ISPITS) أمرًا ممكنًا، غير أن تحويل هذا النص القانوني إلى واقع ملموس استغرق سنوات من التطوير والتأهيل. الآن، وبعد توظيف باحثين مؤهلين من مختلف التخصصات وتطوير البنية التحتية الأكاديمية، باتت هذه المعاهد مهيأة بشكل كامل لتقديم برامج الدكتوراه التي تهدف إلى تعزيز البحث العلمي في مجالات الصحة والرعاية الاجتماعية.
من هذا المنطلق، تأتي هذه الدراسة لعرض قراءة قانونية وفكرية لإحداث مراكز للدكتوراه في ISPITS، تسعى للدفاع عن أهمية تفعيل هذه البرامج في الوقت الراهن، حيث نناقش التحديات والحلول من منظور أكاديمي وفكري، مستندين إلى تجربة تطوير هذه المؤسسات خلال السنوات الماضية.
الإطار القانوني: من النصوص إلى التنفيذ
إن المرسوم رقم 2.13.658 الصادر في 30 شتنبر 2013 يعد الأساس القانوني لإحداث سلك الدكتوراه في ISPITS. فقد نصت المادة 3 بوضوح على أن هذه المعاهد قادرة على تقديم برامج الدكتوراه، مما يشكل الأرضية القانونية اللازمة لتفعيل هذا السلك الأكاديمي. بعد سنوات من التطوير والتأهيل، لم يعد هذا الطموح مجرد نص قانوني، بل أضحى مشروعًا واقعيًا تتوفر له كل الشروط الأكاديمية والبنية التحتية.
لقد شهدت هذه المعاهد تطورًا كبيرًا في البنية التحتية البحثية وتوظيف عدد مهم من الدكاترة الباحثين المتخصصين في مجالات متعددة( حوالي 800 أستاذ محاضر)، مما يجعلها مؤهلة تمامًا لتقديم برامج دكتوراه ذات جودة عالية. إن هذه البرامج، التي تستند إلى رؤية شمولية لتطوير الصحة العامة والرعاية الاجتماعية، لا يمكن أن تكتمل دون إدماج البحث العلمي المتقدم.
الحجج الفكرية لإحداث مراكز الدكتوراه:
البحث العلمي ليس مجرد عملية تقنية تُجرى داخل المختبرات، بل هو عملية فلسفية عميقة تهدف إلى فهم أعمق للعالم وللمجتمع الذي نعيش فيه. إن الصحة ليست حالة بيولوجية بحتة، بل هي ظاهرة اجتماعية وثقافية تتأثر بالعديد من العوامل التي تمتد إلى الاقتصاد، السياسة، والعلاقات الاجتماعية. من هنا تأتي أهمية إحداث مراكز للدكتوراه في ISPITS، بحيث يتمكن الباحثون من استكشاف هذه التداخلات، وإنتاج معرفة جديدة تسهم في تحسين الصحة العامة وتعزيز سياسات الرعاية الاجتماعية.
إن توظيف باحثين من تخصصات متعددة، مثل علم الاجتماع، علم النفس، الدراسات القانونية … الخ، يعزز من قدرة هذه المعاهد على إنتاج بحوث متكاملة تعالج التحديات الصحية من زوايا مختلفة. فالبحث العلمي في هذا السياق لا يقتصر على دراسة الأمراض أو الرعاية التمريضية فقط، بل يتناول أيضًا كيفية تأثير البنى الاجتماعية والثقافية على الصحة. هذه الرؤية الشمولية، التي تربط بين الجوانب الصحية والاجتماعية، ستساهم في إحداث تحول نوعي في البحث العلمي الذي يتم إنتاجه داخل هذه المعاهد.
التحديات التي تواجه إحداث مراكز الدكتوراه وكيفية تجاوزها:
على الرغم من أن الإطار القانوني موجود، والتأهيل الأكاديمي قد تم بالفعل، إلا أن هناك بعض التحديات التي لا تزال تواجه إحداث مراكز للدكتوراه في ISPITS. يمكن تلخيص هذه التحديات في ثلاثة محاور رئيسية:
1. التمويل والدعم المالي: تفعيل برامج الدكتوراه يتطلب موارد مالية كافية، سواء لتجهيز المختبرات البحثية أو لتقديم الدعم المالي للباحثين. في هذا الصدد، يمكن تجاوز التحدي المالي من خلال تعزيز الشراكات بين القطاع العام والخاص، والاستفادة من التمويل الدولي الموجه للأبحاث في مجالات الصحة العامة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن تطوير برامج تمويل موجهة للأبحاث التي تخدم احتياجات المجتمع المحلي، مما سيساهم في توفير الدعم اللازم لتفعيل برامج الدكتوراه.
2. الإشراف الأكاديمي: على الرغم من توظيف عدد من الدكاترة الباحثين في هذه المعاهد، إلا أن الإشراف الأكاديمي على أبحاث الدكتوراه يحتاج إلى تنظيم دقيق، بحيث يتم توفير بيئة بحثية داعمة للطلبة الباحثين. يتطلب ذلك تعزيز الشراكات مع الجامعات الوطنية والدولية، وتبادل الخبرات بين الباحثين لضمان جودة الإشراف الأكاديمي.
3. التعاون بين التخصصات: الصحة ليست مجالًا منفصلًا عن باقي التخصصات الأكاديمية. بل على العكس، البحث في مجالات الصحة والتمريض يتطلب تداخلًا بين عدة تخصصات مثل العلوم الاجتماعية والسياسية، علم الأوبئة، والسياسات الصحية. إن إحداث مراكز للدكتوراه في هذه المعاهد سيمكن الباحثين من العمل على مشاريع بحثية متعددة التخصصات تسهم في فهم أعمق للتحديات الصحية من مختلف الجوانب.
دور البحث العلمي في تطوير السياسات الصحية:
إن إحداث مراكز للدكتوراه في ISPITS سيكون له دور حيوي في تطوير السياسات الصحية في المغرب. الأبحاث التي سيتم إنتاجها في هذه المراكز لن تكون مجرد دراسات نظرية، بل ستسهم في تقديم حلول عملية للتحديات الصحية التي تواجه المجتمع المغربي. على سبيل المثال، يمكن للباحثين تحليل تأثير العوامل الاجتماعية والثقافية على الصحة العامة، وتقديم توصيات لصناع القرار من أجل تحسين السياسات الصحية وتطوير نظم الرعاية الصحية.
البحث العلمي المتقدم سيؤدي أيضًا إلى تعزيز القدرة على الاستجابة للأزمات الصحية الطارئة، مثل الأوبئة أو الأمراض المعدية. من خلال إنتاج أبحاث علمية محلية تستند إلى الواقع الصحي المغربي، ستتمكن هذه المراكز من تقديم حلول تستجيب للخصوصيات الثقافية والاجتماعية للمغرب، مما يساهم في تطوير نظام صحي أكثر فعالية واستدامة.
خاتمة: نحو مركز للدكتوراه يحقق التميز الأكاديمي:
إن إحداث مراكز للدكتوراه في ISPITS ليس مجرد خيار أكاديمي، بل هو ضرورة وطنية واستراتيجية لتعزيز البحث العلمي في المغرب. بعد سنوات من التطوير الأكاديمي والبنية التحتية، أصبحت هذه المعاهد اليوم مؤهلة تمامًا لتفعيل سلك الدكتوراه والمساهمة في إنتاج المعرفة التي ستخدم المجتمع وتساهم في تطوير السياسات الصحية والرعاية الاجتماعية.
البحث العلمي هو ركيزة أساسية لأي مجتمع يسعى للتقدم والازدهار. ومن خلال إحداث هذه المراكز، ستتمكن المعاهد من إنتاج أبحاث علمية تسهم ف وي تحسين جودة الحياة الصحية للمواطنين، وتقديم حلول مبتكرة للتحديات الصحية المعاصرة.