ستظل مجموعة ناس الغيوان, وإلى الأبد, تلك العلامة الفارقة في صيرورة التحولات الفكرية و السوسيو اقتصادية التي شهدها مغرب ما بعد الاستقلال. إذ كان ميلاد المجموعة في بداية السبعينات تفجيرا للنهر الخالد/الذاكرة الشعبية,وترسيما للهوية الجماعية من خلال شكل إبداعي جديد يتمثّل الماضي البسيط,ليؤكد بالقوة و الفعل وجوده الحاضر,ملغيا معه صراع الوجدان ضد الطمس و الاستيلاب و الفصامية…لهذا كانت الغيوان العلامة الأبرز,التي وسمت جيل السبعينات بأكمله,ليس فقط بثورتها الموسيقية و الجمالية,ولكن, أساسا, بحمولاتها النقدية وأبعادها الصوفية و الحنينية.
تمثّل سنة1972 لحظة الميلاد الرسمي للمجموعة، رغم أن وجودها الفعلي و الحقيقي يرجع لسنتين قبل هذا التاريخ, حين تسللت ناس الغيوان إلى العالم الثقافي في هيأة “أخويـة” ذات أهداف روحانية/ زاوية. ومن هنا كانت ازدواجية التسمية التي تقدّمت بها إلى المتلقّي: “الدراويش الجدد/ ناس الغيوان”, في إحالة على البعد الصوفي للمشروع الفني للمجموعة, وانصهارا وجدانيا وفكريا في بوثقة الهيكل العام للزوايا, دون أن تتوقف عند ما هو ديني روحي محض, بل تتجاوزه للدخول في صراع مع النموذج الرسمي السائد. فكانت هذه اللحظة واحدة من فعلات الزمن, مكنت المغرب الأقصى من طريقة صوفية جديدة, وغير مسبوقة, لها مقدم وشيوخ وأتباع ومريدون…هي الزاويـــة الغيوانيـــــــة.
الزاوية التي استطاعت أن تمنح جمالية لطقوس لم تكن معهودة إلا في المواسم و ليالي الحضرة والجذبة, لذلك لم يكن مستغربا أن تلاقيالمجموعة ذاك التجاوب الحار من طرف الجماهير التي ما لبثت أن انخرطت في صراخ وحركات طقوسية لا إرادية كانت تتحوّل معها خشبات العروض إلى ضريح أو مزار تجتاحه الجموع طلبا للبركة وبحثا عن العلاج و التطهير الروحي ,في تحرير للجسد من مثالية الأنا و الرقابة الاجتماعية التي تفرض على الممارسات الفنية والجسدية وصاية تصل حدّ التحريم. ومن هنا يستحيل الفصل بين موسيقى الغيوان والجذبة أو تصور الأولى دون الثانية. فناس الغيوان,لم تكن شيئا آخر,غير دعوة لمعانقة العالم المنبوذ للأغنية المغربية في شخص الحال والجذبة و كناوة/موسيقى العبيد. من خلال توظيف الغناء والإبداع لصياغة معادلة وجودية جديدة/قديمة,هدفها الإفلات من بؤس المادة وتجاوز إثم الحاضر, ورفض تغييب الحدس التخييلي المتحرر من سلطة المنهج والمنطق العقليين وصرامتهما.
و لئن غاب الجانب العنيف عن الحضرة الغيوانية ( تمزيق الثياب والتهام اللحم النيئ كما هو الحال بالنسبة لعيساوة مثلا) فإنها اعتمدت, بالمقابل, في طقوسها التطهيرية على نوع من “البيزوطاج” الفني كوسيلة لتخلي الشباب ,بالأساس, من المكبوتات والرواسب السلبية للقيم الجامدة للتربية والتعليم, التي تفرضها تقليدانية المنظومة الاجتماعية. إنها لحظة حاسمة في سيرورة التحولات الاجتماعية بمغرب النصف الثاني من الفرن العشرين…لحظة الاعتراف بالفرد كوجود متحرر/ذاتي التحكم/مستقل عن صرامة ونمطية السياق الاجتماعي, يمارس كينونته وحرياته (الشعر الطويل لدى الغيواني النموذج مثلا).
لهذا كان تركيز الزاوية الغيوانية كبيرا على ضرورة تخليص مريديها من عقد الإحساس بالذنب,التي سيطرت على المغربي,والعربي عموما, نتيجة التحولات الاجتماعية و المعرفية و الانفصام بين الاعتقاد الموروث و الواقع اليو%D ي, كما هو الحال بالنسبة للممارسات الجسدية التعبيرية التي تناقض هذا المعتقد في كثير من الأحيان.