ليس للتعذيب موطن خاص ولا عصر محدد، إنه قد يوجد في كل مكان وفي كل زمان، بل كان ممارسا عبر مختلف المراحل والحقب التي مر منها الإنسان والمجتمع بصفة عامة، وعرفته، معظم المجتمعات قديما وحديثا إن لم نقل كلها- رغم أن هناك أبحاث تستثني قبائل “البويـبلو” الأمريكية من هذه الظاهرة-؛ وهناك من برع في إلحاق الأذى والعذاب بأعدائه علانية عبر التاريخ، ويعتبر انتزاع المعلومات والاعترافات المبرر الأكثر شيوعاً لاستخدام التعذيب، وقد كان مقبولا ومعترفا به في مختلف الأنظمة القانونية قبل أن يصبح التكتم قاعدة منذ منتصف القرن العشرين بعد تجريمه في مختلف المواثيق الدولية؛ إن عمليات التعذيب التي تأمر بها الدول أو تدعمها والاحتجاز السري وعمليات القتل بدون محاكمة ليست جديدة، إنها جرائم ارتكبت بشكل متكرر في جميع القارات طوال التاريخ ومازالت ترتكب حتى هذه اللحظة؛ إنه ظلم التاريخ الذي يصنعه الطغاة.
شواهد لا تُنسى:
إن تتبعنا للتطور الزمكاني لهذه الظاهرة يُظهر أنها عادة ما تبرز على هامش توثر العلاقة بين طرفي ثنائيات متعارضة ومتعايشة في الوقت نفسه ومتصارعة أحيانا، أي بين حُكْم ومعارضة، بين سيد وعبد، بين من يعتقد ومن يعتقد على نحو آخر، بين قوي وضعيف، بين منفذ قانون ومتهم…، لكن هذا التعايش ينتفي وتنتفي معه الكرامة الإنسانية حينما يُحَول الصراع أحد الطرفين، في لحظة معينة، إلى جلاد بِلا حدود، حيث يصبح التعذيب الجسدي والنفسي وسيلة مثلى غايته تركيع الطرف الآخر أو الإجهاز عليه.
لقد كانت علاقة العبد بسيده في الثقافات القديمة تسمح بتعرض الأول لأبشع أشكال التعذيب الخاضعة لأهواء الثاني، حيث كان الرق جزء من الدعائم الاقتصادية المهمة في المجتمع، ولا يملك الرقيق إلا الطاعة ويكلفون بالأعمال الشاقة وليست لهم أي حقوق بل إن الاعتداء عليهم بالضرب والإيذاء والتعذيب والتنكيل كان أمرا غير مستهجن، وكان الغزاة يسعون إلى سبي أعداد كبيره من البشر لاتخاذهم إيماء وعبيدا، وكان البابليون والعبرانيون القدامى يُخصُون الأسرى من الأعداء؛ ويذكر أن فرعون كان يقطع يداً ورجلاً على خلاف لكل من يخرج عن طاعته، والتاريخ اليهودي يفسح مجالا كبيرا لتعذيب وقتل الأنبياء؛ كما تفنن الرومان في صلب العصاة -ولعل الصليب الذي يضعه المسيحيون حول أعناقهم يظل أبشع رمز للتعذيب-؛ أما أباطرة الصين فكانوا يقسّمون المغضوب عليهم من فوق إلى تحت عموديّا بالسيف.
ولن ينسى المسلمون والعرب تعذيب “بِلال” ووأد البنات وفظاعة تعذيب وقتل كل من “الحلاج”(في عهد الخليفة العباسي “المقتدر”) و”ابن المقفع”(في عهد الخليفة “المنصور”) بتهمة الزندقة، وقد روي عن الرسول(ص) قوله “إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا”.
أصحاب اختراع “الحرق للملاحدة”
ولا يُستثنى الأوروبيون من ممارسة أعمال التعذيب في أبشع صوره، فهم أصحاب اختراع “الحرق للملاحدة”، علما أن التعذيب قد بلغ أوجه هناك بطريقة مفزعة أثناء فترة محاكم التفتيش في القرن15 الميلادي، إذ كان من الممكن الحصول على اعترافات ِمـمّن يفكرون ويعتقدون على نحو مختلف، بل كانت المساءلة والإعدامات وحرق الأحياء وقطع الرقاب تقع أمام أعين الملأ وعلى قارعة الطريق وفي الساحات العمومية في أوروبا إلى حدود نهاية القرن18؛ وقد أبدع الفيلسوف “فولتيرVoltaire” في إدانة ظاهرة التعذيب والتهكم عليها في دفاعه الشهير عن رجل يسمى “كالاس”Callas” عُرِّض للتعذيب وأُعدم سنة1762 بعد أن اُتهم بقتل ابنه البروتستانتي لِنِـيّتِه اعتناق الكاثوليكية.
“التمساح العادل”
ومما قد يبعث على الاندهاش هو سيطرة الخرافة لدى بعض القبائل الإفريقية في تعذيب وقتل المتهم، حين يصبح التمساح المفترس بمثابة القاضي الذي له القدرة على تمييز الظالم من المظلوم دون تحقيق، ليقيم الحد وكأنه يوقع على صك العقاب الأبشع للظالم المفترض ويمنح صك البراءة للمظلوم المفترض، فبعد تكبيل كل من المدعي والمدعى عليه يُتركان على شاطئ البحيرة، حتى إذا خرج التمساح والْتَهمَ أحدهما فيكون هو الجاني، ويكون الذي نجا بريئاً.
قطع الرؤوس و”الترياش”
أما المغاربة فيتذكرون كذلك قطع الرؤوس، إلى حدود بداية القرن العشرين، وتعليقها على مدخل المدن والقرى، كما يتذكرون الحفلات التي كانت تقام لإذلال وإهانة المعارضين، ولعل ما وقع للمسمى “أبوعزة الهيري” والمدعو”أبو حمارة” شاهد على ذلك، ففي عام1871 عندما تزعم “أبو عزة الهيري” حزبا ضد السلطان “مولاي الحسن”، قُبِض عليه وأُقتيد إلى السلطان وطِيف به على جَمَلٍ أمام الملأ فيما يسمى بعملية “التطواف”..؛ وفي في عهد السلطان “مولاي عبد الحفيظ” شُهِّرَ بالمعارض “أبو حمارة” في قفص أياما “حتى رآه الحاضر والباد، وأقيمت عليه الفرجات والأفراح في سائر البلاد..”؛ وفي عهد الحماية تفننت الشرطة الفرنسية في تعذيب الوطنيين المغاربة لاسيما إبان المقاومة بين سنتي1952و1956 واستعملت وسائل مختلفة لانتزاع الاعتراف من المقاومين، وكانت تلجأ في كثير من الأحيان إلى إذلالهم أمام الحشود المتجمهرة كتقييدهم ونتف شعر اللحية حتى يسيل الدم فيما يعرف بعملية “الترياش”.
وإذا كان التعذيب الذي يقع تحت مسؤولية الدولة وأعوانها قد بلغ ذروته وتفشى بشكل كبير خلال الحرب العالمية الثانية واتسع منذ ذلك الحين إلى مناطق كبرى من العالم على نحو بَشِع، فإنه قد بلغ أوجه في المغرب بعد الاستقلال طيلة الأربعين سنة التي تلته، وذلك في سياق الصراع الحدٌي الظاهر والخفي حول الحُكم والذي خلف من وراءه العديد من الضحايا، حيث ظل التعذيب، إلى جانب الاختطافات والمحاكمات غير العادلة، أسلوبا ثابتا للإجهاز على كل رأي معارض للسلطة الحاكمة حسب عدد كبير من “الشهادات” و”المحكيات” و”السير الذاتية” التي ظهرت في العشرية الأخيرة من القرن الماضي في إطار الكتابات السردية لما يطلق عليه بـ”أدب السجون”، وهو ما أكدته جلسات الاستماع التي أشرفت عليها “هيئة الإنصاف والمصالحة”.
تجريم التعذيب
في المقابل تطورت معارضة التعذيب على قدر تفشيه، إذ استجاب القانون الدولي العام ومؤسساته الرسمية لحماية مختلف حقوق الفرد/الشخص/الإنسان في مجموعة من الإعلانات والعهود الدولية التي يشملها الميثاق العالمي لحقوق الإنسان ومختلف الاتفاقيات التي تُعنى بحقوق الإنسان، وأصبح القانون الدولي الإنساني يحظر التعذيب وغيره من أشكال المعاملة السيئة في جميع الأوقات، وقد تُوج الاهتمام الجدي للمجتمع الدولي، بعد سنوات من المفاوضات، بتبني “هيئة الأمم المتحدة” سنة1984 “الاتفاقية الأممية لمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة(CAT)” التي تُوفِّر في مادتها الأولى تعريفاً للتعذيب يحظى بالإجماع، كما تتضمن مختلفُ أحكامِها معايير كونية يتعين أن يقوم على أساسها حظر التعذيب والممارسات المشابهة لضمان الحماية الجسدية والنفسية للأفراد في الدول الأعضاء، علما أن تعريف التعذيب على المستوي الدولي يجعل منه فعلا رسميا قائما على القصد إذا تمت ممارسته من قبل موظف عمومي مثل الشرطي أو العسكري أو الدركي أو الطبيب الحكومي أو حارس السجن أو أي شخص يمارس سلطة رسمية أو يتصرف بهذه الصفة؛ وقد حثت المادة الرابعة من الاتفاقية المذكورة على ضرورة أن تضمن كل دولة طرف أن تكون جميع أعمال التعذيب جرائم بموجب قانونها الجنائي، وينطبق الأمر ذاته على قيام أي شخص بأية محاولة لممارسة التعذيب وعلى قيامه بأي عمل آخر يشكل تواطؤا ومشاركة في التعذيب، وأن تكون هذه الجرائم مستوجبة للعقاب بعقوبات مناسبة تأخذ في الاعتبار طبيعتها الخطيرة.
*عضو المركز المغربي للدراسات والأبحاث في حقوق الإنسان والإعلام