محمد الشنتوف(*)
في مقال بعنوان ” سوسيولوجيا التواصل، الفرضيات والرهانات” يؤكد الأستاذ العمراني مصطفى، أن “سوسيولوجيا التواصل تنطلق من فرضية أساسية قوامها أنه لا يمكن لأي عملية تواصلية أن تكون مستقلة عن سياقها الاجتماعي”، والمقصود بالسياق هنا ما يربط الأنا بالاخر من سياقات مختلفة إبان مرحلة بناء عملية التواصل، أما السياق الاجتماعي عندما نسقطه على الظاهرة السياسية يصبح سياقا سياسيا، وعندما نسقطه في العلوم السياسية على مجال العلاقات الدولية يصبح سياقا ديبلوماسيا، وفي التواصل / والتواصل السياسي هو سياق تواصلي/ وتواصلي سياسي، هذه العملية ربطها هابرماس في نظرية ” الفعل التواصلي” بفلسفة التواصل وبالتواصل في إطار لساني تداولي، أطلق عليه إسم ” التداولية”،التي تتجلى أهميتها في توفير الشروط الممكنة لتحقيق التفاهم او ما يسميه بالفعل التواصلي، الذي يمكننا من عقلنة الفعل التواصلي، سواء كان خطابا او سلوكا، واللغة هي ذلك الوسيط في النسق اللساني التداولي بين المتواصلين، ولهذا وجب الأهتمام باللغة وربطها بسياقها، ثم الإهتمام بالأسلوب، ومراعات السياقين الخاص والعام، لتحقيق نجاح في العملية التواصلية بواسطة اللغة دون اللجوء لأي ضغط او إكراه لفظي او سلوكي، وهكذا نتواصل في إطار ما يسميه هابرماس بعقلنة التواصل .
على ضوء هذا التقديم الاكاديمي النظري يمكن أن نمر إلى التحليل التطبيقي لنقول أن وزارة الخارجية المغربية لا تنطق عن الهوى، غالبا ما تزن المفردات جيدا، وتتريث في الاعلان عن مواقفها تجاه معظم الأزمات الخارجية أو الداخلية، دون ان تتجاهل بأي شكل من الأشكال كيف يمكن لهذه المواقف أن تؤثر على مجهوداتها الديبلوماسية في القضية الأولى للمملكة المرتبطة بالصحراء المغربية، إنها عندما تتواصل، فإنها تعرف جيدا كيف تتواصل، وهو الأمر المطلوب بالنسبة لوزارة بحجم ومكانة وزارة الخارجية في سياق خاص بها يضعها دائما في بوابة ديبلوماسية تفترض دقة بالغة في أي خطوة من خطوات”التواصل السياسي” في شقه الخطابي والديبلوماسي، إننا نتحدث عن ” بيئة خاصة بإنتاج الرسالة التواصلية” أي بسوسيولوجية للتواصل في الجانبين الداخلي والخارجي.
قالت الوزارة في بلاغ صادر اليوم 26 فبراير 2022، بالحرف ما يلي في الفقرة الثانية من البلاغ” تجدد المملكة المغربية دعمها للوحدة الترابية والوطنية لجميع الدول الأعضاء في الامم المتحدة” .
نقف هنا عند ما يلي:
دعمها للوحدة الترابية والوطنية.
الدول الاعضاء في الأمم المتحدة.
الجملتين معا وبعيدا عن الأزمة الأوكرانية الروسية، وفي علاقتها “بسوسيولوجية خاصة بإنتاج هذا الخطاب داخليا وخارجيا” هما بمتابة إشارة تأكيد ودعم للقضية الوطنية بشكل أساسي، فهي بشكل غير مباشر وفي المعنى الغير المباشر للخطاب تقول أنها تدعم وحدتها الترابية وتذكر حلفائها إلى جانب أعدائها الخارجين ان الوحدة الترابية خط أحمر وجب الدفاع عنه في كل مكان، حتى لو تعلق الأمر هنا بأزمة يكون فيه الموقف المغربي بعيدا عن إرادة دولة عظمى ” كروسيا”، وفي الجملة الثانية تقول أنها تدعم ” كل الدول العضوة في الامم المتحدة” وبما أن ” جبهة البوليساريو التي تسمي نفسها ” بالجمهورية الصحراوية ” خارج إعتراف الامم المتحدة، فإنها بشكل غير مباشر تقوي موقفها وتسوق له” وهنا نتحدث عن التسويق السياسي” بطريقة غير مباشرة في أزمة قد تظهر للبعض انها بعيدة عن أزمة المغرب الداخلية مع الجبهة المذكورة.
إذا كانت الحرب ما بعد الحرب العالمية الثانية، هي حرب باردة بين الأقطاب العالمية، فإن أهم أسلحة هذه الحرب هو الخطاب السياسي المباشر والغير المباشر، أي ” اللغة وطريقة تداولها في سياقات مختلفة” توفر شروطا معينة لاستمرار التواصل بعقلانية وعدم التوجه لحمل البندقية مثلما يشير هابرماس في ما معناه لنظريته في الفعل التواصلي، ومن بين أهم اسلحته كذلك سواء في سياق عالمي او في سياق داخلي خاص بالدول كما في حالة المغرب، هو طريقة بناء المواقف تجاه القضايا العالمية، التي تكون مناسبة لخدمة مصالح داخلية في سياق خارجي، وهو ما أرادت الخارجية المغربية فعله في هذا البلاغ المختصر، وبالتالي لا بد من الإشارة إلى أن دراسة ” السوسيولوجية السياسية” والانفتاح على ” العلوم السياسية” في سياق داخلي وخارجي، مهمة جدا لبناء الرسالة التواصلية في شقها السياسي الديبلوماسي.
ما يؤكد سعي المغرب لتصريف مواقفه الشخصية لخدمة قضيته في سياق أزمة عالمية، هو الفقرة الأخيرة من البلاغ حيث يقول:
” تذكر المملكة المغربية بتشبتها بمبدأ عدم اللجوء إلى القوة لتسوية النزاعات بين الدول وتشجيع جميع المبادرات والإجراءات التي تسهم في التسوية السلمية للنزاعات”
هذه الفقرة تثمن ما قلته سابقا في تحليلي للخطاب، وتسوق من خلاله المملكة لإستراتيجيتها التواصلية في تدبير أزمتها مع ” الجبهة” فهي ترفض اللجوء إلى القوة، ولا تستجيب للاستفزازات المتتالية للجبهة في أكثر من مناسبة، بل تؤكد دائما أنها تقف في وضعية” الدفاع” عن أراضيها،” لا “وضعية الهجوم” وهو نفس الموقف الذي تتبناه أوكرانيا مع روسيا اليوم، دون أن توضح المملكة من تقصدهم في “موضوع الانفصال” لتترك الباب مفتوحا لكل التأويلات الممكنة .
وعندما تشير المملكة إلى ” اللجوء للمبادرات السلمية ” لحل النزاع، فإنها تشير بطريقة أخرى إلى مقترح ” الحكم الذاتي” وتشبتها ” بدور بعثة المينرسو” و”دور الامم المتحدة عموما” في حل نزاعها الداخلي، وتشير إلى دور مجلس الأمن في حل مثل هذه النزاعات، رغم انه فشل بالأمس في ثني دراع روسيا عن ما تريد فعله، لأن روسيا استعملت ” القوة الديبلوماسية” باعتبارها رئيسة لهذا المجلس، ونظير توفرها على حق الفيتو، وبالتالي فالمملكة تدين بطريقة غير مباشرة استعمال روسيا للقوتين الديبلوماسية والعسكرية في ٱن واحد في التعامل مع أزمتها مع أوكرانيا، وإلغاء التواصل الديبلوماسي، دون أن ننسى الإشارة إلى مدى انسجام هذا الموقف مع الموقف الأمريكي، ونحن نعرف ما تعنيه أمريكا بالنسبة للمغرب في قضية الصحراء المغربية.
المملكة إذن تنسجم في بناء خطابها السياسي الديبلوماسي الخارجي مع بناء سلوكها السياسي الديبلوماسي الداخلي في قضيتها الأولى، إنها إذن تقف على خمس مرتكزات أساسية وهي:
1-التواصل في إطار دراسة لسوسيولوجا التواصل السياسي داخليا وخارجيا عبر الالتزام بالحياد الإيجابي والحياه المبهم في الأزمة الروسية الأوكرانية لكن بما يخدم قضيتها الداخلية .
2- التسويق السياسي الذكي والغير مباشر لقضيتها الداخلية مع “أزمة الإنفصال” في موقف ديبلوماسي خارجي .
3-التداولية الخطابية كفن من فنون التواصل السياسي المرن عبر الدقة في اختيار المصطلحات التي تنتج معنى سياسيا للخطاب خارجا عن معناه المباشر .
4- الخطاب السياسي الديبلوماسي الدقيق عبر الاعتماد على قاموس خطابي يستمد شرعيته من الأزمة الداخلية للتعبير عن موقف تجاه أزمة خارجية.
5-الديبلوماسية السياسية المرنة عبر محاولة الحفاظ على العلاقات الودية مع كافة الأطراف من خلال عدم استعمال عباراة من قبيل ” الاستنكار” او “الإدانة” وتكتفي بعباراة” القلق” من الأزمة، وهي عباراة تضعها في موقف محايد وحدر جدا من كلى الطرفين، وتضعها في مسافة ٱمنة من ‘ التأويلات الممكنة” لهذا الموقف من الطرفين .
إن فنون التواصل السياسي التي ذكرتها في التحليل أعلاه، تتقوى كلما كانت الجهة المنتجة ” للتواصل” ملمة بالأهداف التي تريد تحقيقها منه، لا مكان هنا للصدفة او الارتجال او العفوية في إنتاج الخطاب، فإذا كانت القاعدة التواصلية تفترض وجود مرسل ومرسل إليه ورسالة وقناة تواصلية وتغدية راجعة” أي ردة فعل معينة” فإن دراسة بيئة التواصل السياسي من جميع النواحي، اي دراسية سوسيولوجيا التواصل يفضي بنا إلى إنتاج ” رسائل تواصلية” دقيقة، قد ترتدي قبعات مختلفة من القنوات التواصلية او الحوامل التواصلية، كالخطاب او البلاغ او البيان او غيره من الحوامل، لكن يبقى التواصل في مختلف السياقات خاضعا لمعايير دقيقة تجعله يدخل ضمن إمكانيات متاحة لعقلنة التواصل، لتحقق أهدافه المنشودة ولكي لا يخرجنا من عقلنة التواصل إلى تأزيم التواصل .
(*) باحث في التواصل والإعلام بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس