لم يبدأ هذا النضال الحياتي في حياة محمد زفزاف من مدينة الدار البيضاء، لكنها كانت معتركه ومتنفسه ..فقد عبرت رحلته إلى هذه المدينة وسط المغرب، من غربه، من مدينة سوق الأربعاء حيث ولد سنة 1945، وحيث درس وتخرج من شعبة الفلسفة، ثم مدينة القنيطرة حيث اشتغل مدرساً، وصولاً إلى كازابلانكا، الاسم الرديف للدار البيضاء، الجميل والمتخفف من كل ثقل، بينما هي مدينة ترزح….
استقر زفزاف في الدار البيضاء كأستاذ. وعاش فيها كـ”بوهيمي”، هذا إن أخذنا من البوهيمية تجلياتها الأدبية السلسة التي تخرج أدباً من تحت الشمس، أي إن زفزاف كان روحاً برية ونابضة وقلقة، غير مشذبة فعلاً، لكنها سعت جهدها إلى أن تقيم بعض اعوجاج هذا العالم.
لقد أشرب زفزاف البساطة كمعيش. وفي الدار البيضاء امتلك التجربة ليناضل لأجل ما يؤمن به. عاش متواضعاً وشارك الآخرين كل شيء. وإذ ترى صورته تبحث في هدوئه عن هذا الشخص المقلق/الفارق في الأدب المغربي، ترى شعره الكثيف وتعرف أنها الأكمة التي تخفي خلفها صيداً ثميناً من الأفكار. كانت لزفزاف كاريزما من نوع خاص، يمارس بها جاذبيته على الناس الذين يلتقون به. حتى من غير قرّائه، وبعضهم من العامة يتكلمون عن زفزاف ويتهامسون في إعجاب مومئين إليه ها هو الشاعر أو ها هو الفيلسوف”.
“الفيلسوف” تسمية تطلق أحياناً كثيرة في سخرية، كناية عن كل مجتهد أو محاولة للتفكر واستخدام العقل. لكنها أيضاً تقال بمعناها، تحمل التقدير للفكر وأصحابه، وزفزاف كان منهم. ويكفي أن طلبته كانوا يلجأون إليه لتقييم بحوثهم قبل غيره، وأن مؤلفاته أهمها “الثعلب الذي يظهر ويختفي” و”المرأة والوردة” و”الحي الخلفي” و”الديدان التي تنحني” و”حوار ليل متأخر” و”محاولة عيش” و”أرصفة وجدران” و”أفواه واسعة” لا يُمرّ بها استعراضاً، بل تُدرّس في أهم الجامعات المغربية والعربية، وترجمت نصوص منها لتدرّس في جامعات أمريكية وأوروبية.
في هذه النصوص تنضح الدار البيضاء ومدن أخرى كالصويرة، وتتوسَّع انطلاقاً منها لتصبح مشتركاً جمعياً في المغرب. تصدح الكلمات بأصوات المقهورين والمنبوذين، أولئك الذين يفدون على العاصمة الاقتصادية للمملكة جماعات، كمن يشحن أمله باتجاه واحد. وأيضاً أولئك الذين حُكموا بأن يتقنوا لعبة النعاج كما وصفها في روايته “الثعلب الذي يظهر ويختفي” بقوله: رأفة بهذه النعاج التي لم تأخذ درساً من نهاية وانقراض القطعان السابقة، عبر سنوات خلت، فإن تلك القوة القادرة العليا والخفية، خلقت شيئاً اسمه الموت. إنه الحكمــة الصادقــة. الدرس الأزلي الذي ما زال يُلقّن لكل النعاج، لكن دون جدوى….
لا يمكن عزل زفزاف الروائي والإنسان عن هذه المدينة، ولا يمكن قراءة أدبه خارجها، فهذه المدينة بكل ما فيها من بشر وأمكنة وروائح وتيه وضياع وأمل وخوف وجَمَال هي صورته السرية، هي متاهته الشخصية مثل أية متاهة أخرى، كمتاهات بورخيس، أو متاهات امبرتو ايكو، أو بصريات محمد خضير، فكل كاتب يصنع متاهته الخاصة بنفسه .. إنها مدينة، نص، ينفتح وينغلق على الروائي، وهذا التقلب هو سر الحنين الدائم في الهرب منها والعودة إليها، لقد دخل في غرام البيضاء….التي فارق الحياة بها بعد طول معاناة مع المرض يوم 13 يوليوز 2001.