د. سميرة العبدي
يعتبر القضاء من الوظائف الأساسية للدولة التي تحقق الأمن والاستقرار، وتمكن استقلاليته عن السلطتين التشريعية التنفيذية من ترسيخ الثقة وتحقيق العدالة.
لكن التطور العلمي والاقتصادي والعولمة وحرية تنقل الأشخاص عوامل أعطت أبعادا دولية للمنازعات جعلت مهمة القضاء أكثر تعقيدا. لذلك أصبح المتنازعون يلجؤون من أجل تسوية خلافاتهم إلى وسائل بديلة كالتحكيم تراعي خصوصية مجال الخصومة، سرعة البت، تيسير المساطر، تقليص درجات التقاضي وسرعة التنفيذ.
وقد أخذ المشرع المغربي بالتحكيم منذ سنة 1913 ثم طوره بعد توقيع بعض الاتفاقيات الدولية وإصدار بعض المواثيق، لكن العمل القضائي أبان عن حاجة ملحة إلى تحيين وتعزيز المقتضيات القانونية المتعلقة بالميدان لتتم أخيرا صياغة مشروع القانون رقم 17-95 المتعلق بالتحكيم والوساطة الاتفاقية .
في المجال الرياضي ـ وفي كرة القدم تحديدا ـ خصوصية النشاط كبيرة وإيقاع المنافسات مرتفع، لذلك يفضل المتنازعون تسوية خلافاتهم “عائليا”. في هذا الباب يعتبر الاتحاد الدولي “فيفا” والاتحادات الوطنية التابعة له عدالتهم “الداخلية” شيئا مقدسا ويحرمون اللجوء إلى القضاء “العادي” إلا في حالات جد خاصة. وحتى من الناحية العملية لا يحتاج المنتسبون لهذه الاتحادات ـ سواء كانوا أشخاصا ذاتيين أو اعتباريين ـ إلى توقيع اتفاقيات تحكيم دائما، لأنهم يعطون صلاحية بت تلقائية للهيئات “القضائية” التابعة لها من خلال انخراطهم في أنظمتها الأساسية أو طبقا لشروط تحكيمية يضمنونها عقودهم.
من جهة أخرى، تصبح العدالة الرياضية أكثر خصوصية وإلزامية حين يتعلق الأمر بالعقوبات الانضباطية (أو التأديبية كما يصطلح عليها). و الحديث هنا عن سلطتي التحكيم والتأديب معا ليس من باب الخلط بل من حيث كونهما وجهين أساسيين ومرتبطين للمنازعات الرياضية.
بمعنى آخر: تنتج العقوبة التأديبية عادة عن مخالفة انضباطية لكن يمكنها أيضا أن تترتب عن عدم تنفيذ مقرر تحكيمي (المنع من تسجيل لاعبين جدد كجزاء عن عدم تنفيذ قراربأداء مستحقات مالية مثلا)، كما يمكن أيضا تقديم طعن في عقوبة تأديبية لدى هيئة تحكيمية (اللجوء إلى محكمة التحكيم الرياضي الدولية “طاس” للطعن في قرار خسارة مقابلة دولية مثلا).
ويستطيع أيضا المحكمون في “طاس” الفصل في الاختصاص بين هيئات مختلفة والبت استعجاليا في نازلة تأديبية (خلال ساعات إن لزم الأمر) واتخاذ تدابير وقتية أو تعليق تنفيذ قرار مطعون فيه. لكن هل تستطيع لوائح الرياضة وعدالتها أن تحرم مواطنا أو مؤسسة من حقهم الدستوري في اللجوء إلى القضاء؟ الجواب البديهي هو النفي. لكن السؤال الدقيق هو كيف يوزع الاختصاص بين القاضي الرياضي والقاضي العادي من جهة وبين مختلف قضاة الدولة من جهة أخرى.
لا يتسع المجال طبعا لإجابات عميقة من خلال بضعة أسطر، لكن بعض الإشارات بشأن السلطة “التشريعية” والتأديبية للجامعات الرياضية تبقى متاحة.
بهذا الخصوص، تجدر الإشارة إلى أن المشرع المغربي حث الجامعات المذكورة من خلال القانون 30.09 المتعلق بالتربية البدنية والرياضة على وضع مدونات انضباطية ملائمة لمدونات الاتحادات الدولية التي تنتمي إليها، حيث متعها ـ بالإضافة إلى امتياز وضع الأنظمة واللوائح الرياضية ـ بسلطة تأديبية واسعة على منتسبيها سواء كانوا أشخاصا اعتباريين أو ذاتيين (اللاعبون والمدربون والمسيرون و حتى الوكلاء والجمهور).
لكن هاته السلطة ليست مطلقة، لا سيما أن العقوبات التأديبية لا تتعلق بمخالفة قوانين اللعبة فقط بل تشمل كل خرق للوائح الجامعية. في دول أخرى تؤطر السلطة التأديبية للاتحادات الرياضية بمدونات انضباطية نموذجية ترسخ وتعزز المبادئ والحقوق الأساسية للأشخاص.
ومن بين هاته المبادئ التنصيص بشكل دقيق على الأخطاء التأديبية وعلى العقوبات المخصصة لها، خصوصا أن العقوبة في المجال الرياضي قد تكون “أوتوماتيكية” في حين أن توقيع العقوبة يستلزم مبدئيا التحقق من وجود الخطأ وتحديده بشكل دقيق.
ومن هنا قد يساهم وضع مدونة انضباطية نموذجية من ترسيخ المبادئ المذكورة ويؤطر جيدا دور الحكام ومراقبي المباريات في تحرير أوراق التحكيم والتقارير، كما يمكن لهذه المدونة أن تساعد اللجان التأديبية للجامعات على ممارسة سلطتها التقديرية خلال تكييف الوقائع وتشديد العقوبات أو توسيع نطاقها إلى المستوى الدولي.
ورغم أن مساطر اللجان التأديبية في مجال كرة القدم تحاكي مساطر القضاء قي حرصها على احترام الحقوق والمبادئ الأساسية إلا أن وضع مدونة نموذجية سيخدم باقي الرياضات وسيوفر نصوص تنظيمية آمرة تمكن الإدارة من توقيع رقابة حقيقية على القرارات التأديبية للجامعات، لا سيما حين تتعلق هذه القرارات باستعمال امتيازات السلطة العمومية.
في معظم الدول يتوجه المتضررون لقضاء الإلغاء ضد القرارات التأديبية وإلى القضاء الإداري من أجل الطعن في اللوائح الجامعية الخاصة بتنظيم المنافسات، لأن هاته الأخيرة تخلق حقوقا والتزامات تغير النظام القانوني.
في المغرب أيضا اعتبرت المحكمة الإدارية بالرباط (الحكم رقم 4295 الصادر بتاريخ 22 نونبر 2012 في الملف عدد 18-5-2010) أن القرارات التأديبية ـ لاسيما تلك المتعلقة منها بتعاطي المنشطات ـ تستجمع مواصفات القرار الإداري الذي يقبل الطعن أمام المحاكم الإدارية، لكنها رفضت في نفس الوقت البت في النازلة احتراما للمبادئ المنصوص عليها في الاتفاقيات الدولية التي تحدد هيئات ومساطر المنازعات المتعلقة بتعاطي المنشطات خلال المنافسات العالمية.
بعيدا عن المادة التأديبية اعتبرت محكمة النقض (القرار عدد 288 الصادر بتاريخ 06 مارس 2014 في الملف الإداري عدد 46/4/1/2014) القضاء الإداري المغربي مختصا للبث في نازلة فصل اعتبره الطاعن تعسفيا، وألغت القرار الذي أصدرته المحكمة الابتدائية لعدم الاختصاص الموضوعي على اعتبار أن الجامعة التي أصدرت القرار مكلفة بمهمة مرفق عام وهذا يعطيها سلطة التنظيم والحرص على تطبيق القانون بناء على تفويض امتيازات السلطة العامة، وبالتالي فالعقود التي تبرمها والقرارات التي تتخذها في هذا الإطار لها طابع إداري يعطي صلاحية البت في النزاعات الناجمة عنها للمحاكم الإدارية.
في ملف آخر اعتبرت محكمة النقض (القرار عدد 382 الصادر بتاريخ 07 مارس 2014 في الملف الإداري عدد 222/4/1/2014) القضاء الإداري مختصا للبت في قرارات الجامعات المتعلقة باستبعاد الرياضيين من المشاركة في المنافسات معتمدة على الفصول 22 و 81 من القانون 30.09 المتعلق بالتربية البدنية و الرياضة.
لكن الاجتهاد القضائي المغربي لم يشترط اللجوء إلى اللجنة الوطنية الأولمبية من أجل التوفيق قبل التقاضي، رغم أن قانون الرياضة يتيح هاته الآلية التي قد تمكن من تدارك أخطاء محتملة. كما أن هذا الاجتهاد لم يعطي بعد إجابات شافية بخصوص الطابع القضائي للقرارات التأديبية للجامعات خصوصا منها تلك التي ينص نظامها الأساسي على كون اللجان التأديبية هيئات قضائية.وهذه الأجوبة ضرورية جدا لتحديد سبل الطعن، خصوصا حين يتعلق الأمر باختيار رياضيي المنتخبات أو بقرارات إنزال الأندية إلى الأقسام التنافسية الدنيا أو الحرمان المؤقت أو الدائم من رخص الممارسة الرياضية.
من جهة أخرى، إن اعتبرنا القرارات التأديبية الصادرة عن الجامعات بمثابة قرارات إدارية فهذا يخضعها لشروط صياغة صارمة ويرتب عنها مسؤولية هاته الجامعات في جبر الضرر. نظرا لكل هاته الأسباب ولأسباب أخرى نقول دائما أن الحاجة إلى تنشيط التشريع الرياضي أصبحت ملحة أكثر من أي وقت مضى.